جانب مجلس القضاء الأعلى
بواسطة حضرة الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف في جبل لبنان
المستدعية: القاضي ساندرا المهتار
الموضوع: طلب إنهاء خدماتي في القضاء
تقوم دولة القانون على قاعدة مفادها أن كلّ حقّ تلازمه مسؤوليّة تضبط ممارسته وتوازن نتائجه لمنع طغيان حقّ على آخر أو تسلّط شخص على شخص أو جهة على أخرى، فيُدرك كل امرؤ حدود حقّه ويرسم عمله في إطار واجباته وحدود مسؤوليّاته ويتحمّل عواقب خرقها بعدلٍ وعدالة. هذه القاعدة تنطبق على المواطنين والسلطات ومنهم القضاء.
وتولّي القضاء تكليف جسيم يُشعر القاضي “العادي” برهبة المسؤوليّة التي لا تفارقه أينما حلّ فتجعله في يقظة دائمة تدفعه إلى الترقّي المستمرّ في علمه وعمله ولَحْظِه وفكره وتُحرِّره من قيود العقل والفكر والتطييف، فيقارب ملفّاته بحلمٍ وعلمٍ وتجرّد وإصغاء وتقبّل متجرّد لجميع الفرقاء، فيصدر حكمه بعد دراسة عميقة متوازنة ويطبّق القانون بحكمة.
تولّي القضاء تكليف جسيم… فكيف بالحريّ بتولّي القضاء في لبنان، حيث الأزمات المتعاقبة والمشاكل المتراكمة والحلول المفقودة والقوانين المتناقضة والطوائف المتنازعة. فعلى القاضي اللبناني العادي أن يتحلّى، فضلاً عمّا سبق ذكره من صفات، بصفة الابتكار، إذ عليه اختلاق الحلول المستحيلة لمشاكل تقع مسؤولية حلّها على عاتق جهات أخرى كوزارة العدل ووزارة الداخلية… من ذلك، معالجة نقص الموارد الماديّة والبشريّة الأساسيّة لسير العمل القضائي أو حتى انعدامها من كهرباء وقرطاسية ودورات مياه ونظافة مكان العمل واستبدال المباني المهدّدة بالانهيار وشراء النصوص القانونيّة والمراجع الفقهيّة والتواصل مع المؤسسات الرسمية والإدارات التي لا يتمّ تأمين سير العمل القضائي إلاّ بحسن تعاونها وبجهوزيّتها لتنفيذ القرارات القضائية على اختلافها، كما عليه الصمود في وجه طغيان اللامساواة وحرمانه- وغيره- من حقوقه الأساسيّة في الراتب والتعويض والفرص الوظيفيّة والدورات التدريبيّة إلخ… وهو المؤتمن على الحقوق والمرتجى لتحقيق العدل وتأمين المساواة.
فالعمل القضائي في لبنان باتت ظروفه سقيمة مُسقِمة:
- فلم تعد القوانين تؤمّن المساواة بين المواطنين وتحمي الفئات المهمّشة أو المستضعفة وتمنع طغيان النافذين (صغارهم وكبارهم) وتلاقي حاجات المجتمع القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والماليّة والأمنيّة والوظيفية بما ينظّم حياة المواطنين ويحقّق المساواة فيما بينهم ويضمن العدالة والاستقرار، بل باتت القوانين تُفَصَّل على قياسات المصالح الآنيّة الضَّيِّقة وفق موازين قوى متحرّكة، وتحاكي أهواء مرحليّة وتخلق فوضى تهدر الحقوق وتمحو المسؤوليّات، وتضع القاضي، الملزَم بتطبيقها، في أزمة ضمير أمام قوانين يراها مجحفة، وما من نصّ يمكّنه من الطعن بها أو يعطيه إمكانيّة إبداء الملاحظات تصويباً لمسارها؛
- ولم يعد القاضي سيّد نفسه في أداء مهامه، بل أنّه، وبحكم القوانين المستجدّة، المغلّفة بعناوين الاستقلاليّة وحماية الحقوق والتي تُبطن التقييد والاستتباع وصرف النفوذ داخل القضاء وخارجه، أصبح أداةً في يد السلطة السياسيّة لتنفيذ مآربها وتغليب مصالحها وتوسيع نفوذها؛ وبات بعض القضاة يرزحون تحت عبء ملفات متراكمة تخنق العدالة ومَن يلجأ إليها ويستنزف القضاة والمساعدين القضائيين على حد سواء، وقد تتالت الوعود بالمعالجة منذ وضع دراسة بشأن الاختناق القضائي في لبنان في العام 1994 ولا زالت المشكلة تتزايد حدّتها تزامناً مع تناقص عدد القضاة والمساعدين القضائيين وزيادة عدد الملفات القضائية في ظل تلاحق الأزمات من نزوح وأزمات نقديّة واقتصادية وماليّة وانعدام الحلول؛
- أمّا السلطة القضائيّة، فعلى الرغم من تميّز القضاة اللبنانيّين وكفاءتهم، إلاّ أنها عجزت عن إثبات نفسها يوماً سلطة مبنيّة على عمل مؤسّساتي منتظم ولم يتمكّن القيّمون عليها والمسؤولون عنها من إدارتها وقيادتها بما يعزّز ركون أعضائها إلى عدالتها أو يحفّز عجلة العمل القضائي ويدعمه ويقوّيه، فباتت السّلطة القضائيّة هيكلاً تتهاوى جدرانه تدريجيّاً مع عصف الأزمات وتواليها، وما من مغيث؛
- وقصور العدل… لم يبقَ منها إلاّ اسمها، وباتت قاصرة عن احتواء أو تأمين مقوّمات العمل القضائي وصناعة العدل، وما من مسؤول.
وهذا غيضٌ من فيض…
تقدّمتُ يوماً بخطّة عنوانها “معركة استعادة ثقة العامة بالسلطة القضائيّة” ليقيني بأن القاضي العادي لن يُجدي عمله الدؤوب نفعاً إن غابت ثقة العامّة بسلطته، ولكنّني اليوم أرى أنه أصبح على السلطة القضائيّة أن تدرك بأن المعركة باتت معركة استعادة ثقة القاضي العادي بها كسلطة حقيقيّة وكمؤسسة موجودة، فاعلة، قادرة على السهر على حسن سير عمل المحاكم، ومريدة للمحافظة والتمسّك، فعلاً لا قولاً، بالقضاة العاديين المستقلّين، المتّزنين، المكافحين، المثابرين والثابتين، ومنع التعدي عليهم وتشويه سمعتهم، ومعالجة أوضاعهم والمحافظة على حقوقهم واستعادة ما سُلب منها والمطالبة بما ليس في يدها تحقيقه، بما يضمن حسن أداء العمل القضائي ويؤمّن كرامة القضاة ويضمن المساواة فيما بينهم ويتيح نفاذهم للمعلومات والمعرفة والفرص بما يؤدّي تلقائيّاً إلى التحرّر المسؤول من أي قيود ماديّة أو فكريّة أو عمليّة. سلطة تفرض وجودها كإحدى السلطات الثلاث وتؤكّد التزامها بتأمين مقوّمات صناعة العدل وإحقاق الحق، فتُحاسب نفسها في غياب مَن يحاسبها، وتدعم عمل القاضي العادي بالتوازي مع مساءلته، فلا تسمح بأن تُثقل كاهله أعباء ليس من مسؤوليّته ولا من واجباته حتى مجرّد التفكير فيها، ولا تتركه يواجه ويعالج وحده عند اشتداد الأزمات وتعقّد العقبات.
قرّرْتُ منذ ما يزيد على الأربعة وعشرين عاماً تولّي القضاء لاقتناعي بأنه الوسيلة الأنجع لإحداث تغيير إيجابيّ حقيقيّ في المجتمع عبر إعمال حكم القانون. وقد عملتُ بجدّ وتجرّد واستقلاليّة ولم أوفّر من الجهد قوّة لإحقاق الحق وإقامة العدل بكل ما أوتيتُ من وعي وإدراك وتواضع علميّ وخبرة متراكمة وشجاعة وجرأة وإقدام، وجنّدتُ كلّ قدراتي ومقدّراتي لأداء واجبي القضائي على أتمّ وجه بما يحافظ على احترامي لعملي ووفائي بقَسَمي ويديم اتّقاد فضيلة العدالة الخالدة في نفسي، وهدفي إحداث التغيير الذي يرسي العدل والمساواة في المجتمع وفي القضاء. ولم أطلب يوماً شيئاً لنفسي، وإن بحقّ، لإيماني بأن العمل المؤسّساتي- ويُفترض أن يكون القضاء موطنه- يجب أن يعطي كل صاحب حق حقّه- واجباً لا منّة- وأن تحدَّد فيه الحقوق بشكل واضح ووفق معايير دقيقة قابلة للقياس، كما تُلقى فيه الواجبات وتوزّع بالتساوي، ولإيماني بأنه مع مثابرة القضاة العاديّين واجتهادهم ومكابدتهم وثباتهم وصبرهم، لا بد من أن يتكرّس العمل المؤسساتي في القضاء وإن طال الزمن.
قاسيتُ الأمرّين من عدم إنصافي وتهميشي وإقصائي عن بعض المواقع وعدم إشراكي في اختيار المواقع التي يتمّ نقلي إليها واللامساواة في الفرص وذلك حرصاً على استقامتي ورفضي المحاباة واعتمادي حصراً على كفاءتي ونظافة كفي واجتهادي وإخلاصي في العمل لا على علاقات تربطني بهذا أو ذاك داخل القضاء أو خارجه أو نفوذ اكتسبته أو تبعيّة تدفعني قُدُماً أو تختصر المراحل أمامي. وارتضيتُ إقصائي عن الدورات التدريبيّة والبعثات العلميّة وسواها ممّا يتنعّم به المحظيّين في القضاء، كما حُمِّلتُ باستمرار، ومنذ سنوات التدرّج، عبء العمل في محاكم مُثقلة لا بل مختنقة بكثافة الورود والملفّات المتراكمة وحرمان من الموارد الأساسيّة لأداء العمل ما لم أطلبها شخصيّاً وكأنها تُعطى للمحكمة منّةً لا واجباً، ولم أرضخ ولم أنكسر ولم أقصّر ولم أقبل بخفض معاييري، بل كافحتُ وتعبتُ واجتهدتُ لأقدِّم أفضل أداء لي في القضاء، كل ذلك كي أكون أنا أنا، ولأبقى كما أعرِفُني صادقة مع نفسي، مخلصة لمبادئي وأخلاقي وقيمي التي كانت ولا تزال السبب الرئيسي والدافع لاختياري القضاء وسيلة لتحقيق رسالتي في الحياة كما أراها وأرضى عنها.
عملتُ واجتهدتُ وكافحتُ وصبرتُ ورغم الصعاب ثبتتُ إلى أن أُسقم قلبي فسقِمت. ومع اشتداد الأزمات وتراكمها، وللمحافظة على مستوى أداءٍ يرضي ضميري ويطابق معايير القاضي العادي، أضنيتُ جسدي وأخذ هدفي يتقلّص يوماً بعد يوم، ومعركة بعد معركة، وخيبة بعد خيبة، إلى أن بات لا أن أُحدث التغيير، بل ألاّ أسمح لكل ما يحيط بعملي ووجودي من ظروف بائسة بأن يغيّرني، وهذا الهدف لا يمكن ولا يجوز ولا يحتمل التقليص، فما نفع الإنسان إن ربح العالم وخسر نفسه.
اليوم، وبعد كل ما عانيتُه شخصيّاً بنتيجة ظروف العمل غير الإنسانيّة وغير السليمة التي ترافق العمل القضائي في لبنان بشكل عام، وفي قصر العدل في بعبدا، بشكل خاص (وأنا أعمل فيه منذ العام 2009)، والتي ذكرتُ بعضاً منها آنفاً، كما سبق أن تمّ إعلانها بإسهاب مراراً وتكراراً من زملائي ومنّي بموجب كتب خطيّة واجتماعات رسميّة وعروض تنحي وجمعيات عمومية حيث طلبنا حلولاً تمكّننا من أداء عملنا بسلامة وتحافظ على صحة وكرامة كل من يعمل ويقصد قصر العدل دون جدوى،
فإنه لم يعد بإمكاني الاستمرار في تحمّل ما حُمِّلته، ولم أعد أرغب بالمكابدة انتظاراً لحلولٍ لن تأتي.
لكلّ ما تقدّم من أسباب، وفي غياب ضوء أي أمل في تحسّن ظروف العمل اللاّزمة والملازمة لحسن أداء الواجب القضائي، بات من واجبي تجاه نفسي ترك مؤسّسة شرّفني بذل أكثر من نصف عمري الزمني الجاري خدمةً لرسالة العدالة فيها، وقد أسهبتُ في عرض الأسباب إذ أردتُ لطلبي هذا أن يؤدي رسالة أخيرة تحقّق هدفاً لطالما أملتُ وسعيت لتحقيقه في عملي ومن خلاله، لعلّي أحقّقه بإنهاء عملي.
ولما كان قد تمّ تعييني في القضاء بموجب المرسوم رقم 6097، تاريخ 30/8/2001، وقد تجاوزت سنوات خدمتي الفعلية الثلاث وعشرين سنة؛
لذلك،
أتقدّم منكم بهذا الكتاب وأطلب إنهاء خدماتي في القضاء وإحالتي على التقاعد وإعطاء هذا الكتاب مجراه القانوني لصرف الراتب التقاعدي وحقوقي وذلك سنداً للمادة 132 من قانون تنيظم القضاء العدلي معطوفة على المادة 69 من نظام الموظفين ووفاقاً للأحكام القانونية المرعية الإجراء.
وتفضلوا بقبول الاحترام
بعبدا في 5/8/2025
قاضي التحقيق في جبل لبنان
ساندرا المهتار
ملاحظة: قُبل الطلب وصدر مرسوم إنهاء خدمات القاضي ساندرا المهتار بتاريخ 21/11/2025 ونُشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 4/12/2025
